بيان يوم الأسير

Write by:

في يوم الأسير.. لا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر

الأسير المحرر صدقي المقت

في يوم الأسير الذي يصادف ١٧ نيسان من كل عام، نقف اجلالا واكبارا أمام عمالقة الشعب الفلسطيني الصامد على أرضه. نقف وكلنا خشوع امام هؤلاء الابطال القابضين على الجمر خلف القضبان.  يدفع الاسرى ثمن حلمنا الجماعي في العيش بحرية، يدفعون الثمن بالمعاناة الكثيفة والتضحيات الجسام لحظة بلحظة هم وعائلاتهم، وسط تجاهل مشين لقضيتهم على المستوى الرسمي، الفلسطيني والعربي والعالمي.

ايمانا منا في تيار فلسطين الحرة الديمقراطية بأن قضية الاسرى هي قمة المهمات الوطنية الفلسطينية والعربية، لم نجد اقوى وأكثر تعبيرا عن حبنا لأسرانا، وتعبيرا لهم عن شكرنا وامتنانا العميقين، لهم ولآسرهم، وعهدا لهم على ان نحمل قضيتهم على جباهنا حتى يبزغ فجر الحرية ويعودوا احرارا الى أحضان اهلهم واحبائهم الدافئة المنتظرة لهم بكل شوق وحب، لم نجد شيئا اقوى من ان نسمع صوتهم الى العالم عبر رسالة أحد الاسرى المحررين.

الرسالة تتكلم من ذاتها بخط البطل المناضل والأسير العربي السوري المحرر، صدقي المقت، من الجولان العربي المحتل، الذي أطلق سراحه الى بلدته، مجدل شمس، بعد أكثر من ١٥ عاما قضاها في دهاليز الفاشية الصهيونية بعد ان رفض ابعاده الى دمشق.

 رسالة لمن يهمه الامر:

  أنا واحد من هؤلاء الأسرى، عشت بينهم عشرات السنين، كان من الممكن أن أكون رقماً اخراً يُضاف الى العدد الإجمالي للأسرى (٥٠٠٠-٥٥٥١)، أرقام اعتدنا على سماعها في كل صباح ومساء، وما عادت تعني لنا شيئاً، تحررت مؤخراً، لا لكي اصمت، انما كي احكي الحكاية، حكاية من بقوا داخل الأسر، حكاية ما يجري هناك داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي.

 انا هنا، كي أصرخ صرختهم، وكي احكي وجعهم.

أنا قادم من هناك، من معتقلات تعيش خارج الزمن، وخارج العصر والحياة، وخارج القانون، وخارج أي شرعيه أخلاقية او انسانيه، كل شيء هناك مباح امام الجلاد، يفعل ما يشاء، ولا أحد يبالي، يزجّنا بالآلاف داخل المعتقلات ولا أحد يسأل، يحاصرنا الجلاد بسياطه وعصيه واسلاكه وقضبانه وجدرانه العالية، ويحاصرنا النسيان والإهمال والذاكرة العربية المفقودة أصلاً، عصي الجلاد تؤلمنا، ويقتلنا         أكثر، ذلكم، الصمت الذي يلفّنا من كل جانب.

 ذهبت النخوة العربية وما عاد لها أي أثر، كنا يوماً عناوين بارزة، تبدأ بها نشرات الأخبار والمهرجانات الاحتفالية والخطب والقصائد، يوم قمنا بأعمالنا النضالية ضد الاحتلال، كل بطولة من تلك البطولات التي هزّت الكيان الصهيوني، مرتبطة بشخص او عدة أشخاص، المحتل يعاقبنا على ما قمنا به بالسجن مدى الحياة عشرات المرات، والذاكرة العربية أخذت البطولة، وتركت صاحبها في الأسر لعشرات السنين. أي انفصام في ذاكرة تمجّد البطولة وتدفن البطل؟! أي نخوه تلك، التي تشتعل لدى سماعها نبأ عمليه فدائية ضد هذا المحتل، وتنطفئ امام سنوات الأسر الطويلة؟! أي شعرٍ ذاك الذي يمجّد بطولات المناضلين الفلسطينيين في الوطن المحتل، ويصمت دهرا امام ما يلاقيه الأسرى في سجون الاحتلال؟!

فلسطين ليست مجرد اسمٍ في الهواء، وليست مجرد قضيةٍ معلقةٍ في الفضاء، فلسطين هي الإنسان الفلسطيني، هي الأرض الفلسطينية، هي الأسير الفلسطيني، هي أسرة الشهيد الفلسطيني، هي من هُدّمت منازلهم، ومُنعوا من الخروج من القرية، ومن أُهينوا وضُربوا على الحواجز، فلسطين هي العمال الذين يقفون بالآلاف على المعابر في منتصف الليل بانتظار فرصة عمل داخل الكيان، فرصة عمل قد تأتي وقد لا تأتي، فلسطين هي العمال الذين يدخلون تهريباً الى فلسطين المحتلة عام 48 للعمل في مهن وحرف لا يتنازل الإسرائيلي عن القيام بها، وفي ظروف تذكّرنا بالعبودية، وإذا ما ضُبط هذا الفلسطيني متلبّساً بجرم ” العمل الشريف من أجل لقمة العيش، ”  يُزج  به في سجون الاحتلال، عمال خارج القانون وخارج الزمن وخارج الذاكرة العربية، منسيون،  تماماً مثلنا نحن الأسرى، نعيش خارج الزمن وخارج الذاكرة العربية.

نحن الأسرى في سجون الاحتلال، لسنا مجرد تقارير في ملفات المخابرات الإسرائيلية، ولسنا مجرد ارقام في الذاكرة العربية التي تفرح كلما ارتفع الرقم، لكل أسير منا أسم وهويه، وذكريات طفولة في شوارع قريته. لكل أسير أسرة تنتظره، أمٌ تعدُ سنوات الاعتقال ليس بالأيام وإنما بالثواني، وتعدُّ ما تبقى لابنها كي يتحرر بأجزاء من الثانية، تحسبُ كل يومٍ، كم عيدٌ مرِ، وكم عيداً سيمّر، كم وجبة إفطار مرّت، وكم وجبة إفطار ستمّر، لكل أسيرٍ فتاة كان يحبها، وقد اتفقا على ترتيبات الخطبة أو الزواج، بعضهن ما زلن ينتظرن، والبعض الآخر هجرن او أجبرن على الهجران لإنعدام الأمل، وبقي هذا الحب المكلوم معلقاً على جدران السجن، يحرق قلب الأسير كل لحظه لسنوات طوال.

لسنا ارقاماً في الذاكرة العربية، وإنما للبعض منا أبناءٌ، وبنات وُلدن في ذات عام الإعتقال، وكبرن، وأصبح عمرهن بعدد سنوات أسر الأب، تحتفل الابنة بعيد ميلادها العشرين، لتتلقّفها الذاكرة، وتصوّب قلبها الى السجن، ويتحول الإحتفال الى تراجيديا عشرينية الأسر، تخرج من بيتها يوم زفافها، بعد أن تأجّل الموعد عشرات المرات، على أمل ان يشارك الأب في زفاف ابنته، وعندما يفقد الجميع الأمل بكل الفرص الضائعة وغير الضائعة، الفرص الحقيقية والفرص المفترضة في عالم الخيال، يُقام الفرح اليتيم بغياب الأب الممدّد على سريرٍ في زنزانةٍ، يقضي ذاك اليوم وتلك الليلة، في إستحضار مشاهدٍ مأخوذةٍ من عالم الخيال، لزواج أبنته في عالم الواقع.  يُمضي عمره وكل سنوات الأسر، وهو ممزقٌ، ما بين خياله الرحيب وواقعه المرير.

لسنا ارقاماً في الذاكرة العربية، وانما للبعض منا زوجة تنتظر، أعتقل العريس يوم زفافه، او قبل ان يتمّم شهر العسل، وبقيت الفرحة معلّقه في الهواء، وبقيت الأحلام وخطط المستقبل متناثرة، ما بين مكان الفرح وجدران السجن.

 تمضي السنين، وخطط المولود القادم تؤجَّل من عامٍ الى آخر، إختاروا الإسم، ورسموا مستقبل الطفل القادم، الذي لم يأتِ بعد، لأن الذاكرة العربية غيّبت اسم الأب، وأطفأت أنوار حفل الزفاف.

عشرون عاماً في الأسر، والعد التنازلي لا يتوقف، وفرص الإنجاب في قلق، العمر البيولوجي للإنجاب للزوجة لا ينتظر الذاكرة العربية كي تستيقظ، كل شيءٍ مهدد بالإنهيار من حوله، وان لم يأتِ المولود هذا العام فلن يأتي ابدًا.

 لا بأس من الانتظار عدة أشهر، ربما يأتي المجهول بما يوقظ الذاكرة العربية، وتمنحه فرصة أخيرة، بولادة أحلام من رحم هذه الذاكرة كي ينقذ القارب من الغرق.

صمتٌ يطبق من حوله، ولا شيء يتغير، يقرر ان يتصرّف، فإن لم يُقدم هو على المغامرة، فلن تفيده تلك النخوة النائمة، فيخاطر، ويهرّب نطفةَ منه، لتلتقي مع نصفه الآخر، تتحدى كل قوانين وإجراءات الجلاد، وتتحد مع نصفها الآخر، لتتكوّن أحلام، في رحم المعاناة والقهر والحرمان.

 ما عادت تهمه كل الأيام والشهور والسنين المتبقية، وما عادت تعني له النخوة العربية أي شيء، سيان عنده، ان استفاقت من سباتها ام لم تستفِق.

 هم تسعة أشهر، وستأتي أحلام معلنةً انتصاره على جدران السجن وعلى النسيان، خاض معركته بمفرده، بعد ان جُرد من بطولته، وتخلّى عنه الجميع، وتُرك وحيداً في الميدان.  خاطر بكل شيء وتحدى، تسعة أشهر، توازي كل سنوات الأسر التي مرّ بها، تُولد أحلام بعد ان مرّت بكل مراحل التهريب. طفلةٌ خارج الزمن، وخارج المنطق، وخارج القانون، وبكل تأكيد، خارج الذاكرة العربية. هي تشبهنا بكل شيء، بولادتها تحكي حكايتنا، تروي كل شيء.

أحلام، اصرخي صرختنا. قولي لهم من انتِ. لا تصمتي. أيقظي ما تبقى من الذاكرة العربية. أيقظي ما تبقى من النخوة العربية.

قولي لهم: “أريد أبي … لقد سلبه الإحتلال حريته وسنوات عمره، واخذتم أنتم بطولته، أريد ما تبقى من أبي، انه لي وحدي، ارسلني خارج الأسر كي ادافع عنه، واصرخ صرخته، وأحكي وأشكو وجعه… أرسلني الى وطني في هذه الدنيا، بعد ان انتظر عشرات السنين، ولم يصله منكم سوى الصمت، ولا شيء غير الصمت … أريد ابي حياً، أعيش معه ما تبقى له من عمرٍ، قبل أن يتحول الى ذكرى مدفونةٌ في التراب، عندها لن اصدقكم، ولن اصدق كل قصائدكم واشعاركم واغانيكم، التي تمجد ذكرى أبي.”

تيار فلسطين الحرة الديمقراطية – 17 نيسان


Recommended Posts